روسيا والاستشراق : بين المعرفة والسلطة


لطالما كانت العلاقة بين روسيا والعالم الإسلامي ذات طابع خاص في السياقات التاريخية والسياسية، بالنظر إلى الطبيعة المتنوعة للإمبراطورية الروسية التي ضمّت العديد من الشعوب المسلمة على مدار تاريخها، حيث تعاملت مع الإسلام كجزء من نسيجها الداخلي. في هذا السياق، كان الاستشراق الروسي جزءًا من محاولة لفهم الثقافات الإسلامية والتفاعل معها، سواء على المستوى الأكاديمي أو على المستوى السياسي.
الاستشراق، بشكل عام، يُنظر إليه عادة كدراسة الغرب للشرق، ويشمل دراسة اللغات، الأديان، العادات والتاريخ. لكن من خلال نقد إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" (1978)، أصبح يُنظر إليه أيضًا كأداة هيمنة ثقافية استخدمها الغرب لتبرير الهيمنة الاستعمارية. على الرغم من أن هذا النقد ينطبق بشكل أساسي على القوى الغربية مثل بريطانيا وفرنسا، فإن الحالة الروسية تمثل خصوصية، إذ أن روسيا، كقوة أوراسية، تعاملت مع العالم الإسلامي من الداخل بقدر ما تعاملت معه كـ "آخر" خارجي.
تاريخ العلاقة بين روسيا والعالم الإسلامي لم يكن خاليًا من الصراعات العسكرية، حيث نشبت العديد من الحروب بين الإمبراطورية الروسية والدول المسلمة. من أبرز هذه الحروب الحروب الروسية ضد الإمبراطورية العثمانية، التي استمرت قرونًا وتخللتها فترات من الهدوء والتصعيد. الحروب الروسية في القوقاز، خاصة ضد الشيشان والداغستانيين، تعد أيضًا من المراحل الهامة التي تعكس التوترات العسكرية مع الشعوب المسلمة في هذه المناطق. كما كانت هناك مواجهات مع قبائل التتار في مناطق وسط روسيا، وخصوصًا مع التتار في تتارستان وبشكيريا.
بالإضافة إلى ذلك، توجّهت الحروب الروسية في بعض الأحيان ضد القوى الإسلامية في آسيا الوسطى خلال القرن التاسع عشر، ما أدى إلى توسيع النفوذ الروسي في هذه المنطقة ذات الأغلبية المسلمة. هذه الحروب شكلت جزءًا من السياسة الروسية في التأثير على الحدود الجغرافية والثقافية، وكانت في بعض الأحيان تدور حول السيطرة على أراضٍ إستراتيجية ذات أهمية دينية أو ثقافية بالنسبة للمسلمين.
بينما كان الاستشراق الروسي يعكس في بعض الأحيان رغبة في فهم الثقافة الإسلامية بعمق، فقد اُستخدم أيضًا في فترات مختلفة كأداة استراتيجية من قبل الدولة. في الحقبة القيصرية، كان الاستشراق أداة لفهم الشعوب المسلمة داخل الإمبراطورية، وتوجيه السياسات الدينية والإدارية. كان من بين هذه السياسات تعزيز التعليم الموجه للمسلمين وفرض مناهج تعليمية تتوافق مع التوجهات السياسية للدولة، بالإضافة إلى دعم الزعامات الدينية المتعاونة والحد من الحركات الدينية القومية.
خلال الحقبة السوفيتية، تغيرت هذه السياسات بشكل ملحوظ، حيث تم تقديم الإسلام كمرحلة "رجعية" يجب تجاوزها ضمن سياق التطور الاشتراكي. إلا أن هذه النظرة لم تمنع من استخدام بعض عناصر الثقافة الإسلامية، مثل التصوف، لتعزيز الأيديولوجية السوفيتية والترويج لفكرة أن الإسلام يمكن أن يتماشى مع الأفكار الاشتراكية. كان ذلك جسرًا بين العالمين الإسلامي والاشتراكي الذي كان يسعى الاتحاد السوفيتي لبنائه.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، أعادت روسيا توجيه اهتمامها بالعالم الإسلامي لأسباب متعددة، بما في ذلك التحديات الأمنية في المناطق المجاورة مثل الشيشان والقوقاز، والنمو المتزايد للأيديولوجيات الإسلامية السياسية في مناطق مثل الشرق الأوسط. في هذا السياق، أصبح الاستشراق جزءًا من استراتيجيات السياسة الداخلية والخارجية، حيث سعت روسيا لتقديم نفسها كقوة "تفهم الإسلام"، بينما كانت تنشط في تبادل المعرفة الأكاديمية والثقافية، سواء من خلال التعليم أو الإعلام، مثل قناة RT بالعربية.
على المستوى الداخلي، تسعى الدولة الروسية إلى دعم الإسلام "التقليدي"، الذي يرتبط غالبًا بالتوجهات الصوفية المعتدلة، مع التركيز على مراقبة التيارات السلفية والجهادية التي يُنظر إليها على أنها تهديدات محتملة للأمن الداخلي. تدعم الحكومة الروسية مؤسسات دينية مثل المجلس الروسي للمفتين، وتعمل هذه المؤسسات كمنصات لنشر الإسلام المعتدل، الذي يتماشى مع سياسات الدولة.
على الصعيد الدولي، تسعى روسيا لبناء علاقات استراتيجية مع دول العالم الإسلامي. في سوريا، على سبيل المثال، دعمت روسيا نظام بشار الأسد في محاربة الجماعات المتطرفة، مع تأكيدها على أن تدخلها هو جزء من الحرب ضد الإرهاب، وليس ضد الإسلام ذاته. مع دول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر، تحافظ روسيا على علاقات دبلوماسية واقتصادية مرنة، وتعزز من تعاونها في مجالات متعددة. كذلك، لا يمكن تجاهل العلاقة الوثيقة بين روسيا وإيران، التي تمتد إلى مجالات متعددة من التعاون الأمني والعسكري، حيث يسعى الطرفان إلى بناء جبهة موحدة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
إن دراسة الاستشراق الروسي تُظهر كيف يمكن أن تتداخل المعرفة والسلطة، حيث تُستخدم الدراسات الثقافية كأداة لفهم الآخر وتوجيه السياسات الوطنية والدولية. على الرغم من أن المستشرقين الروس قد قدموا أعمالًا علمية هامة، فإن هذه الأعمال لم تكن بمنأى عن الاستخدامات السياسية التي تهدف إلى خدمة مصالح الدولة الروسية. في نهاية المطاف، تظل روسيا حريصة على الحفاظ على صورتها كقوة قادرة على "فهم" الإسلام بشكل مختلف عن القوى الغربية، لا سيما في سياق العلاقات الجيوسياسية المتغيرة.

بوسيدون


Post a Comment

أحدث أقدم