لطالما اعتُبرت الحرية جوهر الوجود الإنساني، والغاية السامية لكل مجتمع متقدم. لكن، ما نشهده اليوم في الغرب، بل وفي أرجاء متزايدة من العالم، ليس سعيًا نحو الحرية الحقيقية، بل هو سرابٌ خادع، وهمٌ كبيرٌ أوقعنا في شباك عبوديةٍ جديدة، أشد فتكًا من سابقاتها، لأنها تأتي مغلفةً ببريق الزيف. عندما نمعن النظر في واقعنا الحديث، نجد أن دعاوى التحرر تتكشف في حقيقتها كأفخاخٍ ماكرة، تؤدي بنا إلى الانغماس في أنظمةٍ تقيّد الروح، وتُفرّغ الوجود من معناه الأصيل.
المجتمع الحديث، في تقديمه الأعمى لمفاهيم "التقدم" و"الحداثة"، قد أجرى استبدالًا جوهريًا. لقد استبدل السلطة الأبوية، بما لها من روابطٍ عضوية، وإن كانت معقدة، بسلطةٍ مطلقة، غير مرئية، وذات طبيعةٍ تجريدية: السلطة الرأسمالية. هذه السلطة لا تنظر للإنسان ككيانٍ روحي أو مجتمعي، بل كمستهلكٍ، وكعاملٍ، وكوحدةٍ إنتاجية. إنها تحررنا من القيود التقليدية، نعم، لكنها في المقابل تُغرقنا في بحرٍ لا قرار له من الرغبات المصطنعة، والاحتياجات المُختلَقة، والمسؤوليات التي تفرغ الإنسان من جوهره.
النسوية: ثورةٌ أدت إلى الاستعباد، والجسد كسلعة
هنا، يبرز جانبٌ مظلمٌ من هذه "التحولات" الكبرى، ألا وهو ما يُعرف بـ "النسوية الحديثة". لا شك أن الدافع الأصلي للكثير من هذه الحركات كان نابعًا من مطالب مشروعة بالإنصاف والحقوق الأساسية، خاصة في سياقٍ تاريخيٍّ كانت فيه المرأة تعاني من تمييزٍ واضح. لكن، ما تحول إليه المسار لاحقًا، خاصة في نسخته الأكثر راديكالية، هو أشبه بالقفز من سفينةٍ تغرق إلى قاربٍ وهميٍّ يبحر مباشرةً نحو عاصفة.
لقد تم تصوير السلطة الأبوية، وهي بنيةٌ اجتماعيةٌ تاريخيةٌ تشكلت عبر آلاف السنين، كقمعٍ شاملٍ يجب التخلص منه بكل ثمن. تم اعتبار المنزل، الأسرة، والروابط التقليدية، بمثابة سجنٍ يجب كسره. وبدلاً من السعي لإصلاح هذه البنى، أو لإيجاد توازنٍ جديدٍ فيها، تم الدعوة إلى التخلي عنها بالكامل.
لكن، ما هو البديل الذي عُرض؟ التحرر عبر الاندماج الكامل في النظام الرأسمالي. لقد تم تسويق فكرة أن "الاستقلال المالي" و"النجاح المهني" هما قمة الحرية والتمكين للمرأة. في هذا السياق، تحولت المرأة من جزءٍ أساسيٍّ وفاعلٍ في بناء الأسرة والمجتمع، إلى عاملٍ آخر في الآلة الإنتاجية الضخمة.
أوهام الانعتاق: أرقامٌ بدلًا من أرواح، والجسد سلعةٌ رائجة
ما تراه النسوية الحديثة "حريةً" هو في حقيقته "استبدال قيدٍ بآخر". عندما تترك المرأة المنزل، ليس للبحث عن ذاتها الروحية أو الاجتماعية، بل للانغماس في سباقٍ محمومٍ للحصول على "منصبٍ مرموقٍ" أو "راتبٍ مرتفعٍ"، فإنها لا تتحرر، بل تنخرط في شكلٍ جديدٍ من أشكال العبودية.
العبودية الاقتصادية: تصبح المرأة، مثل الرجل، أسيرةً لضرورة العمل لساعاتٍ طويلة، غالبًا ما تكون مرهقة، ليس من أجل غايةٍ أسمى، بل من أجل تلبية متطلبات نظامٍ استهلاكيٍّ متزايد، يفرض عليها شراء المزيد والمزيد من السلع والخدمات، لتشعر بأنها "ناجحة" أو "عصرية". أصبح دورها "منتجًا" ثم "مستهلكًا"، وهي معادلةٌ لا تنتهي.
عبودية الوقت: لم تعد المرأة تملك رفاهية الوقت الكافي للعناية بذاتها، بأسرتها، بتنمية روحها، أو حتى بالتأمل. حياتها أصبحت مُقسّمةً إلى فتراتٍ زمنيةٍ ضيقة، معظمها مخصصٌ للعمل أو لتجهيزاتها لـ "أداء" دورها في هذا السباق.
عبودية التجريد: النظام الرأسمالي، بطبيعته، يميل إلى تجريد الإنسان من هويته الأصلية، ليصبح مجرد رقمٍ، أو مؤشرٍ، أو كفاءة. في هذا الإطار، تُصبح قيمة المرأة، كما الرجل، مقاسةً بمدى إنتاجيتها الاقتصادية، وليس بمدى عمق علاقاتها، أو غنى روحها، أو مساهمتها في النسيج المجتمعي.
الأكثر إثارةً للقلق، هو التسليع الجنسي الذي بات سمةً مميزة لهذا النظام. لقد تم اختزال المرأة، في الكثير من جوانب الثقافة الحديثة، إلى مجرد جسدٍ مثير، سلعةٍ رائجة تُباع وتُشترى، تُستخدم كأداةٍ لجذب الانتباه، ولزيادة المبيعات، ولتحقيق "المشاهدات". هذه النظرة لا تحرر المرأة، بل تُجرّدها من إنسانيتها، وتُحوّلها إلى أداةٍ للقوة الاقتصادية، وتُعمّق من دورها كـ "كائنٍ للاستهلاك" على مستوياتٍ أعمق. إنها قمة التناقض: الدعوة للتحرر من السلطة الأبوية لتقع في أحضان نظامٍ يُسّلعها جنسيًا، ويُحوّل جسدها إلى عملةٍ في سوقٍ لا يرحم.
تهجين الرجال: أفول الذكورة الأصيلة
ولم تسلم الذكورة من هذا الانهيار المنهجي. فبينما تُسعى المرأة إلى "التحرر" عبر الانخراط في عالم العمل،
يتم في ذات الوقت تهجين الذكورة نفسها. تُفقد الرجل، ببطءٍ ولكن بثبات، هويته التقليدية كـ "صانعٍ، وحامٍ، وقائد". تُنتقد صفاته "الرجولية" كعدوانيةٍ سلبية، وتُشجع خصاله "الأنثوية" المزعومة كالحساسية المفرطة أو الضعف العاطفي.
في هذا الفراغ، يظهر ما يُسمى بـ "مؤثري التنمية البشرية" و"قادة السوشيال ميديا" ليمثلوا قمة الاستفزاز. هؤلاء، الذين يتاجرون بالأوهام، وبالمشاعر السطحية، وبـ "الحلول السريعة" لحياةٍ معقدة، يقدمون للرجل إما صورةً مضللةً لـ "الرجل الجديد" الضعيف، الذي يعتمد على "التوكيدات الإيجابية" و"العناية بالذات" (التي غالبًا ما تكون مجرد استهلاكية)، أو يقدمون له صورةً مزيفةً للنجاح المادي الخالي من أي معنى روحي أو اجتماعي. إنهم يستغلون هذا الارتباك، وهذا البحث عن معنى، ليبيعوا لنا الوهم مرةً أخرى، في صورةِ دوراتٍ تدريبيةٍ باهظة، أو نصائحٍ مبتذلة، أو مجرد استعراضٍ لحياةٍ زائفة.
هؤلاء "المؤثرون" هم تجسيدٌ للرأسمالية في أشد أشكالها استغلالًا: تحويل المشاعر الإنسانية، والمخاوف، والآمال، إلى سلعٍ قابلةٍ للتسويق، وتقديم وصفاتٍ جاهزةٍ لحياةٍ كان ينبغي أن تُبنى على جهدٍ، وتأملٍ، وصبر. إنهم يساهمون في تفريق المجتمع، وتحطيم الروابط، وزيادة الشعور بالضياع، كل ذلك تحت ستار "مساعدة" الناس على "النمو" و"النجاح".
إن الحرية الحقيقية لا تعني التخلي عن كل أشكال السلطة أو البنى الاجتماعية، بل تعني القدرة على تحقيق الإمكانيات الكامنة للفرد ضمن إطارٍ أخلاقيٍّ ومجتمعيٍّ يحفظ الكرامة والمعنى. السلطة الأبوية، في جوهرها، كانت تحاول الحفاظ على استمرارية المجتمع، على نقل القيم، وعلى توفير إطارٍ للأدوار المكملة بين الرجل والمرأة. لم تكن مثالية، بلا شك، وشهدت انحرافاتٍ عديدة، لكنها كانت بنيةً تحمل في طياتها إمكانية العطاء والبناء، وليس مجرد الاستهلاك والتجريد.
النسوية الحديثة، في سعيها لتدمير هذه البنى، لم تقدم بديلاً حقيقيًا، بل مجرد فراغٍ ملأته الرأسمالية. لقد ألغت دور المرأة كـ "حارسةٍ للبيت" لتجعلها "موظفةً في الخارج"، وألغت دورها كـ "مُربيةٍ للأجيال" لتجعلها "عاملةً في الإنتاج"، وألغت دورها كـ "رابطٍ مجتمعي" لتجعلها "وحدةً استهلاكية".
ختاماً
إن وهم الحرية الذي يعيشه مجتمعنا الحديث، والذي تدعم أركانه حركاتٌ ترفع شعاراتٍ براقة، هو وهمٌ خطير. عندما نرى نساءً يجدن السعادة الزائفة في ساعات العمل الطويلة، وفي السعي اللامتناهي لاقتناء المزيد من الأشياء، وفي فقدان القدرة على بناء أسرٍ مستقرةٍ أو مجتمعاتٍ متماسكة، فإننا نرى ضحايا هذه الوهم. لم تتحرر المرأة من "السلطة الأبوية" لتجد نفسها حرة، بل لتجد نفسها عبدةً لنظامٍ أكثر برودةً، وأكثر وحشيةً، وأكثر تجريدًا، نظامٌ لا يرى فيها سوى رقمٍ في ميزانية، أو سلعةً في سوق، أو جسدًا يُسّلع.
وبالمثل، فإن الرجل الذي يُفقد هويته، ويُشجع على الضعف، ويُقدم له "خبراء" يتاجرون بآلامه، لا يكون قد تحرر، بل تم تهميشه وتجريده من دوره الأصيل.
سيبيروس
إرسال تعليق